تسونامي جدة بين النقد والقدر

لا تقل: عروس البحر، بل قل: هي الثكلى التي فقدتْ من أبنائها بضعًا بل العشرات، وقل الحق، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].

التلاعُب بالنَّقْد مهْنة "نتنة"، وتحييد الحقيقة عن مسارها الواقعي لا يخدم إلا أهل الأغراض الدنيئة، ولأن الوضْع اليوم يختلف عن البارحة، وأصبحت التقنية الحديثة توصل "المايك" إلى الرويبضة، ولو كان في جحر الضب هناك بعيدًا، يناول وينتقد مشكلة اجتماعية، ويتهم الأمانات والجهات المختصَّة بالفساد، حتى السباكون لم يسلموا من التعريض في نقده، وكأنه لم يشاهد تلك السيول الجارفة التي حملتْ أطنان الحديد، يطفو على سطحها كقشاش أعواد مبتلّة! لا شك أن الفاضي يعمل قاضي! إنني لو أشاهد الناقد الحصيف، وهو يطفو على سطح تلك الأمواج يصيح بأعلى صوته ينشد النجدة، لكان عنوان مقالته بعد إنقاذه: "آمنَّا بالقضاء والقدر الذي رضي به المؤمنون"، إلا أنه منسدح على أريكته، ويتهم الناس بالفساد؛ ليبعد الأذهان عن الفكرة، التي في الوقت نفسه يخرج علينا نفر من الخطباء يقولون: إنَّ الأمطار والسيول الجارفة سببها المعاصي والذنوب، التي لم يكتفِ فعلها على أرض جدة، بل يُجاهر بها بالفضاء الخارجي "علنًا"، إلا أن هذه النظرة التي يعتبرها البعض ظلامية وتشدد، لا تأخذ صيغة العموم على أهل جدة؛ ففيهم الأتقياء، وأئمة المساجد والصالحون، وكل مجتمع فيه وعليه، لكن هي أقدار الله، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.

النوازل والقضايا الاجتماعيَّة سرعان ما تحوَّل إلى رأي عام، وكأنها قطعة لحم يتقاطعها رهط من القطط! اليوم وسائل الإعلام تتناول القضايا الاجتماعية، وتحولها لرأي عام، وأحداثٍ مثيرة لأغراضها الماديَّة والشخصيَّة، وأصبح إعلامنا - للأسف - يصنف من إعلام الإثارة العاري - في بعض تناوله للقضايا - عن المصداقية والموضوعية، لا شك أن الإعلام المحلي هو الذي بحاجة للنقد وإصلاح الفساد الذي يعتريه، والإعلام هنا هو مؤسسات "البزنس" الإعلامية، ليست الوكالة ولا الإذاعة، ولا حتى التليفزيون السعودي، الذي أصبح قديمًا ببرامجِه، ولو خُلط معها شيء من الغث والسمين.

نحن بحاجة إلى طرْح موضوعي، وإظهار للحقيقة، والمشاركة والمحاولة بالإصلاح، لكن بطرح مقنع، نحن شاهدنا ما تناقلتْه وسائل الإعلام من الصُّورة الفظيعة، والأضرار التي نالتْ محافظة جدة، تعاطف الكثير معها، وهو الواجب، إلا أنني أحسستُ بمدى الولع الذي يملكه بعض النقاد بنيل من الشخصيات والمؤسسات، باسم: "النقد"، وهل شاهدوا الكم الهائل من الأمتار المكعبة لسيول الماء، والعمق المذهل، ويأتي مَن ينتقد ويقول: الخلل بالبنية التحتية لمحافظة جدة! ما هي الأنابيب؟ وما هي سعتها التي تصرف تلك السيول الجارفة؟! إلا أن الناقد الحصيف لم يعمل مواسرجي، وليس عنده دراية في فنون السباكة والتصريف!

لا بد أن نرضى بقضاء الله، ويراجع كل واحدٍ نفسه؛ فنحن نقصر ونخطئ، ثم لا بد من الوقوف مع إخواننا الذين أصيبوا بالنازلة، وفتح مجال التبرع والإنفاق في سبيل الله، وأن تكون هنالك حملة شعبية تَتَبَنَّاها المؤسسات الخيرية لجمع التبرُّعات لصالح المتضررين، فما نالهم نالنا، وديننا الحنيف يحثُّنا على التكافل الاجتماعي، وأن نكون كالبنيان المرصوص، بعيدين عن النقد الهدَّام الذي يفسد البنية التحتية.