إشكال في قضاء صيام رمضان

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فمرحبًا بك أيها الابن الكريم، وأحيِّيك على تلك الدقة في تحرير ما تسأل عنه، وأسأل الله أن يهدينا وإياك لما اختُلف فيه من الحق بإذنه.

أما الجواب عن الاستفسار الأول: فالمتابع لشبكة الألوكة يعلم حِرصنا الشديد على متابعة أقوال الأئمَّة المدعومة بالأدلة الصحيحة الشرعية والعقلية، وهو الأظهرُ في الدليل والقياس ومتابَعة أقوال الصحابة الكرام وتقديمها على كل قولٍ سواها، مع الحرص على عدم مخالَفة علماء العصر المشهود لهم بالعلم والفهم والتجرُّد لدِين الله تعالى، وهذا باختصار شديد هو المنهج العلمي لشبكة الألوكة، وهو ما منحنا ثقة أهل العلم والقراء، وهذا ما اتبعناه في مسألة قضاء فوائت الصلاة والصوم، وراجع على سبيل المثال على شبكة الألوكة استشارة: قضاء الصلوات الفائتة.

أما لو أخذت بقول من قال من الصحابة والأئمَّة بعدم القضاء ولم تأخذ بقولهم في عدم كفر تارك الصلاة، فقد بينا في أجوبة سابقة أنَّ مسألة عدم القضاء ليستْ مبنيَّة على كفر تارك الصلاة، وإنما بنيت على أدلة كثيرة منها: أن الأمر بالأداء ليس أمرًا بالقضاء، وأنَّ القضاء لا يصحُّ فيه دليل سالم مِن المعارضة، وأنَّ التوبة تجبُّ ما قبلَها، كما أن الإسلام يجبُّ ما قبله، وهذا ما حرَّره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو ينصر مذهب عدم القضاء؛ حيث قال كما في "مجموع الفتاوى" (22 / 17 - 18): "والتوبة كالإسلام، فإن الذي قال: ((الإسلام يهدم ما كان قبله)) هو الذي قال: ((التوبة تهدم ما كان قبلها))، وذلك في حديث واحد من رواية عمرو بن العاص رواه أحمد ومسلم، فإذا كان العفو عن الكافر لأجل ما وجد من الإسلام الماحي، والحسنات يُذهبن السيئات، ولأن في عدم العفو تنفيرًا عن الدخول، لما يلزم الداخل فيه مِن الآصار والأغلال الموضوعة على لسان هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا المعنى موجود في التوبة عن الجهل والظلم، فإنَّ الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يَمحو الله بها السيئات، وفي عدم العفو تنفير عظيم عن التوبة، وآصار ثقيلة وأغلال عظيمة على التائبين.

وقد ثبَت في صحيح مسلم عن أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله يبدِّل لعبده التائب بدل كل سيئة حسنة)) على ظاهر قوله: ﴿ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70]، فإذا كانتْ تلك التي تاب منها صارت حسنات، لم يبقَ في حقِّه بعد التوبة سيئة أصلًا، فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفوِّ عنه، ويصير ذلك الترك من باب المعفوِّ عنه، فلا يجعل تاركًا لواجب، ولا فاعلًا لمحرَّم، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة الشرعية" اهـ.

ولكن يبقى أن اعتقاد عدم كفر تارك الصلاة مخالف للنصوص الكثيرة من الكتاب والسنة والمعقول، فراجع إن شئت كتاب الصلاة لشيخ الإسلام ابن القيم.

وسبَق أن بينَّا وجوب قضاء الصيام لمن تعمَّد الفطر مع التوبة النصوح في الفتويين: قضاء صيام لأعوام مضت، و"حكم مَن أفطر يومًا من رمضان عامدًا" قضاءً ماديًّا (نقودًا وأشياء مادية)؟!

أما من أجبر أحدًا على الإفطار في نهار شهر رمضان، فهو بلا شك وقع في كبيرتين؛ إفطاره ثم إجباره غيرَه، وقد ورد مثل هذا في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: ((وما أهلكك؟))، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: ((هل تجد ما تعتق رقبة؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟)) قال: لا، قال: ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، قال: ((تصدق بهذا))، وفي لفظ للدارقطني فيه: فقال: هلكت وأهلكت، فقال: ((ما أهلكك؟)) قال: "وقعت على أهلي"، وذكر الحديث، قال أبو البركات بن تيمية: وظاهر هذا أنها كانت مكرَهة".

فإن كانت المكرهة زوجته وجامَعها كما في الحديث السابق فلا تجبُ عليها الكفارة كما نص عليه الإمام الشوكاني في نيل الأوطار (4 / 256)؛ حيث قال: "وقال الجمهور: تجب على المرأة على اختلاف بينهم في الحرَّة والأَمَة والمُطاوعة والمُكرَهة، وهل هي عليها أو على الرجل؟ واستدل الشافعي بسكوته عن إعلام المرأة في وقت الحاجة وتأخير البيان عنها لا يجوز، ورد بأنها لم تَعترف ولم تسأل فلا حاجة، ولا سيما مع احتمال أن تكون مكرَهة كما يرشد إلى ذلك قوله: في رواية الدارقطني: "هلكت وأهلكت" اهـ.

أما القضاء فقد سبق بيانه

وفَّقنا الله وإياك للعمل بالكتاب والسنة