التقليد عند تعدد المجتهدين

التقليد عند تعدُّد المجتهدين

هذه هي المسألة الأولى المرتبطة بالمقلِّد، وهو العامي، سواء كان جاهلًا صرفًا، أو كان عنده حصيلة من العلم، غير أنه لم ينل منزلة الاجتهاد، وهذه المسألة من المسائل المهمة؛ لِما لها من ارتباط وثيق بالواقع؛ إذ يلحظ في كل عصر، بل وفي كل بلد، تعدُّد من ينتسب إلى الفتوى والاجتهاد، فهل يلزم المقلد أن يبحث عن الأعلم من بينهم أو يكفيه أن يثق بأن من أراد سؤاله عالم أهلٌ للفتيا، ولا يلزمه اختيار الأعلم؟ وفي هذا المبحث نتطرق إلى رأي الشَّاطبي في المسألة، ثم إلى عرض رأيه على آراء الأصوليين ليلحظ من وافقه ممن خالفه، ولا بد قبل ذلك من تحرير محل النزاع في المسألة:

تحرير محل النزاع:

أولًا: اتفق العلماء على أن على المقلد أن يبحث عما يعرف به صلاحية من يقلده أو يستفتيه لتقليده أو استفتائه، فلا يحل له أن يقلد أي أحد، ولا أن يستفتي أي أحد، وإنما عليه أن يقلد العالم الأهل؛ ولذا فعليه أن ينظر هل من يقلده اتصف بوصف العلم والأهلية أو لم يتصف بذلك؟ وقد نقَل الاتفاقَ على وجوب ذلك جماعةٌ من الأصوليين[1]، وبعضهم قرر المسألة دون نقل وفاق[2].

ونقل الجويني الخلاف في المسألة، وأن بعض المعتزلة قال: "لا يجب عليه البحث والاجتهاد عمن يقلده أو يسأله"[3].

ونقله ابن عقيل بقوله: "وحُكي أن قومًا أجازوا أن يستفتي غيره من غير تعرف لحاله في العلم والأمانة"[4].

واعتبراه خرقًا للإجماع؛ إذ الإجماع حاصل على ألا يسوغ للعامي أن يستفتي كل من يلقاه.

قال الرازي: "اتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالم ولا متدين"[5].

وقال الآمدي: "القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة"[6].

ثانيًا: اتفق العلماء على أنه إن لم يوجد إلا مفتٍ واحد في البلد، فللعامي أن يقلده، ولا يجب عليه الانتقال إلى بلد آخر لتحصيل الأعلم[7].

قال الزركشي: "لا خلاف أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل الدنيا، وإن كان نائيًا عن إقليمه، فهذه الصورة لا تحتمل الخلاف"[8].

ثالثًا: اختلف العلماء إذا تعدد العلماء المتأهلون للفتوى في البلد الواحد، فما الذي على العامي؟ هل عليه أن يسأل أحدهم، ولو لم يبحث عن أعلمهم، أو يجب عليه البحث عن الأعلم وسؤاله؟ هذا هو محل النزاع في المسألة.

رأي الشَّاطبي:

يرى الشَّاطبي - فيما يظهر - أن للمقلد إذا تعدد عليه أهل الفتوى والاجتهاد: أن يتخير أيًّا منهم فيقلده، ولا يلزمه أن يرجح بينهم؛ ولذلك يقول: "والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذًا القائمون له مقام الشارع"[9].

فهو هنا لم يعين عالمًا يجب اتباعه، بل عمم الحكم، ومن المعلوم أن المنتصبين يتفاضلون في العلم فيما بينهم.

ويؤيد ذلك قوله: "إذا تعين عليه السؤال، فحق عليه ألا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه، فلا يخلو أن يتحد في ذلك النظر أو يتعدد، فإن اتحد فلا إشكال، وإن تعدد فالنظر في التخيير، وفي الترجيح قد تكفل به أهل الأصول، وذلك إذا لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال، أما إذا كان قد اطلع على فتاويهم قبل ذلك، وأراد أن يأخذ بأحدها فقد تقدم قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح"[10].

فهو هنا قد فرق بين حالتين:

الحالة الأولى: تعدد المفتين، وهو يريد أن يعرف الحكم قبل أن يعرف آراء المفتين، فهو هنا - فيما يبدو - يرى جواز سؤال أي من المفتين؛ لأنه غايَر بين هذه الحالة والتي تليها، ولو كان حكمهما واحدًا لَمَا فرق بينهما، ولذكر أن لهما حكمًا واحدًا.

والحالة الثانية: تعدد الفتوى، وهي بعد أن يعرف أقوال المفتين في المسألة، وسيأتي بيانها وإيضاحها.

ويتأيد هذا بأنه أجاب لما ذكر استدلال المخير للمقلد في الفتاوى بحديث: (أصحابي كالنجوم)[11]: بأن قال: "فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوًا فاستفتى صحابيًّا أو غيره، فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه"[12].

فقوله هذا ظاهر في جواز استفتاء وتقليد المفضول مع وجود الفاضل[13].

وقد وافق الشَّاطبيَّ على ذلك أكثرُ الحنفية[14]، وأكثر المالكية[15]، وأكثر الشافعية[16]، وأكثر الحنابلة[17]، وهو ظاهر كلام أحمد، وهو قول الجمهور[18]، ونسب لجماعة من الفقهاء[19]، واختاره الشوكاني[20].

وخالفه القائلون بوجوب الاجتهاد والترجيح بين المفتين، وأنه لا يجوز تقليد المفضول مع وجود الفاضل: وبه قال السمرقندي من الحنفية[21]، وابن القصار[22] من المالكية، وبعض الشافعية؛ كابن سريج[23]، وابن كج[24]، والإسفراييني[25]، والقفال المروزي[26]، والقاضي حسين[27]، والسمعاني[28]، وإلكيا الهراسي[29]، وبعض الحنابلة؛ فهو ظاهر اختيار الخرقي[30]، واختاره ابن عقيل[31]، وابن قدامة[32]، وابن القيم[33]، وابن بدران[34]، وقال الطوفي: "هو الأحوط"[35]، وبه قال القاضي عبدالجبار[36]، وأبو الحسين البصري [37] من المعتزلة.

ونسبه ابن القصار لمذهب مالك[38]، وهو رواية لأحمد[39]، ونسب للغزالي[40].

والقول الثالث في المسألة: أنه إن اطلع على الأعلم والأوثق، فيلزمه تقليده، وإن لم يعلم فله أن يقلد أيًّا منهما: واختاره الغزالي[41]، وابن الصلاح[42]، وابن حمدان[43]، وابن مفلح[44]، وابن النجار[45].

والقول الرابع: أنه يجوز تقليد المفضول لمعتقده فاضلًا أو مساويًا، فإن اعتقد فيه أنه مفضول امتنع تقليده: واختاره ابن السبكي[46]، وتبعه الأنصاري[47].

والفرق بين هذا القول والقول الثاني هو أن هذا القول يكتفى فيه باعتقاد الأرجحية أو المساواة، ولا يجب البحث عن الأرجح، أما الثاني فإنه لا يكتفى فيه بمجرد الاعتقاد، بل لا بد من البحث عما يوجب الأرجحية[48].